«وتحول النهار إلى ليل»، هكذا تقول الكلمات المحفورة على اللوحة البابلية، والتي تصف الخسوف الكامل للشمس في 31 تموز/يوليو 1062 قبل المسيح . فلقد كان شعب بابل ينظر إلى خسوف الشمس برهبة وخوف، لأنه كان يعتبرها علامات من الخالق. أما في ايامنا هذه، فإن عملية الخسوف لم تعد بالغموض نفسه، طالما اننا صرنا نفهم نظامنا الشمسي أكثر، واصبح بامكاننا حتى أن نتنبأ بتاريخ حصول الخسوف.
إلا أنه مع ذلك لا يزال الخسوف الكامل للشمس ـ بنظرنا ـ مدعى للدهشة، وذلك حين تنزلق الدائرة السوداء للقمر امام الشمس، وتبدو وكأنها تبتلع ضوءها، على الرغم من أن دائرة الشمس تظل ظاهرة مثلها مثل الهالة الضوئية. وأثناء عملية الخسوف تصبح الأرض داكنة اللون بشكل غير طبيعي، ويسودها السكون لدقائق، فيها الناس، والطير، والحيوان، كلها تنظر إلى السماء بحيرة أو خوف من هذا لانقطاع الغريب للضوء والدفء .
وعندما يمر القمر، وهو يدور في مدار الأرض، بين الأرض والشمس، فإنه يحجب تماماً ضوء الشمس عن إحدى مناطق الأرض. إلا أن هذه الظاهرة لا تحصل في كل مرة يكمل فيها القمر دورته حول الأرض (أي كل شهر) کما يتوقع البعض، وهذا سببه أن مدار القمر حول الأرض هو أميل قليلا من مدار الارض حول الشمس. ولا يتقاطع المداران إلا مرة واحدة كل ستة أشهر، وهي ما يسمى بـ«فصول الخسوف». ويمتد كل فصل خسوف على طول الشهر، يحصل خلاله الخسوف في مكان ما من الأرض عندما يقع القمر في المنطقة الوسط بين الرائي والشمس. ولكي يكون الخسوف كاملا، أي ليحجب الشمس تماماً، فيجب أن تتوفر الشروط الآتية :
1_ على القمر أن يتواجد في ذلك الجزء من مداره البيضاوي الشكل حول الأرض بحيث يكون قريباً من الأرض لدرجة أنه يبدو وكأنه يغطي الشمس تماماً ـ علماً بأن الشمس أكبر من القمر حجماً. فإذا لم يكن القمر قريباً من الأرض كفاية، يحصل ما يسمى بـ«الخسوف الحلقي»، والذي يبدو من خلاله إطار الشمس الأصفر اللون، وذلك بعكس الخسوف الكامل الذي لا يبدو من خلاله سوى شبح الشمس .
2 ـ أما الشرط الثاني لحصول الخسوف الكامل، فهو أن على القمر المرور عبر وسط الشمس. ويتم الخسوف الجزئي عندما يظهر القمر في بعض المناطق الجغرافية وكأنه يأكل جزءاً ما من الشمس. وبما أن القمر اصغر جداً من الشمس، فإن الخسوف لا ينال سوى مناطق محددة من الأرض في وقت واحد. ويحصل الخسوف الكامل في مكان ما من الأرض مرة واحدة كل سنتين أو ثلاث سنوات . ولا تختبر بقعة ما من الأرض الخسوف الكامل إلا مرة واحدة كل 360.
والآن نسأل: كيف بإمكان أي انسان معرفة هذه الحقائق؟
ومن دون شك، فإن عملية مراقبة النجوم هي اقدم وسائل الاكتشاف العلمية. ففي أثناء مراقبة نقاط الضوء في السماء، وكيفية تنقل الواحدة بالنسبة إلى الأخرى، توصل الإنسان إلى وضع تصورات عدة مختلفة تشرح النظام وراء كل ما يراه.
والمعروف أنه منذ أربعة الآف سنة، كان مواطنوا بلدة ستونهنج (في بريطانيا) يستخدمون الجلمود (وهو صخر مدور) كأداة فلكية ضخمة لقياس الزمن، الأمر الذي كان يمكنهم من تمييز فصول السنة عن بعضها من خلال مراقبة اوضاع النجوم بالنسبة إلى قطع الصخر المختلفة. ويذهب بعض العلماء إلى حد الاعتراف بأن الصخور هي التي كانت تساعد هؤلاء القدماء على التنبؤ بالخسوف. ومن المؤكد أن الصينيين القدماء كانوا قادرين على توقع الخسوف، إلا أنهم لم يتمكنوا بالضرورة من فهم هذا الحادث الطبيعي .
ويخيل لمراقب النجوم من الأرض بأنها ثابتة بالنسبة إلى بعضها البعض، فيما تتحرك الكواكب في السماء بحرية تامة، وبسرعات مختلفة، لدرجة أنه يخيل للمراقب بأن هذه الكواكب تدور في المدار الحلقي الشكل نفسه كل بضعة شهور. (وعلى هذا فإن اصل كلمة كواكب planets هو من الكلمة اليونانية planetes ، وتعني «الهائمون»).
وليس سراً أنه حتى القرن السادس عشـر كان الانسان يظن بأن الأرض هي مركز الكون، حتى جاء رجل الدين البولندي نيكولاس كوبرنيكوس بالتفسير البسيط لما كان يراه . وبما أن تصور كوبرنيكوس لحركة الكواكب يتطابق مع بقية المعارف التي اكتسبناها حتى اليوم، فإننا نقبل بهذا التصور، الذي يقول: بإن القمر يدور فعلا حول الأرض، فيما تدور منظومة الكواكب الأخرى حول الشمس. (وقد قام العلماء بتطوير تصور كوبرنيكوس على مدى القرون لكي يتناسب مع اهدافنا وطرق فهمنا وتنبؤاتنا للحوادث الفلكية).
وحالياً، يتولى كومبيوتر مركز الرصد الأميركي التابع للبحرية الأميركية في واشنطن حساب تواريخ الخسوف بدلاً عن العلماء الأميركيين. ويتولى المختصون عملية تلقين الكومبيوتر بآخر المعلومات المتأتية عن المعدات المزروعة على سطح القمر بواسطة رواد الفضاء الأميركيين .
ومعلوم لدينا اننا أكثر من جمع المعلومات تاريخياً عن شكل القمر ومسافته عن الأرض في اوقات مختلفة وبالتالي فإنه إذا تمكنا من معرفة أي الجبال القمرية أو الوديان سوف تكون على قطر القمر عند لحظة الخسوف، فإن ذلك سوف يخبرنا عن شكل الاظلال التي ستغطي الأرض، وسيخبرنا كذلك عمـن سيرى الخسوف ومتى. وما تزال تقنية التنبؤ بالخسوف في طور النمو. ومع ذلك فإننا تمكنا من معرفة حدود المنطقة التي سوف تشهد الخسوف الكامل بنسبة خطأ توازي خمسة اميال فقط، وبالاضافة إلى ذلك فإننا استطعنا تعيين موعد الخسوف بنسبة خطأ تقدر بثانية أو ثانيتين فقط. وبالنظر إلى حجم الكواكب قيد الدرس فإن النتائج التي وصلنا إليها مثيرة للإعجاب فعلا.
واخيراً نسأل: لماذا يهتم العلماء إلى هذا الحد بمتابعة عمليات الخسوف؟
ولربما احسسنا بالحرج لو أن العلماء لم يولوا المسألة ذلك الاهتمام ، إلا أن اسباب أخرى وراءه : وهذه الأسباب هي معرفة المزيد من المعلومات عن الشمس، والكواكب، والمناخ على الأرض، وحتى انتاج الطاقة. فأثناء الخسوف الكلي، واثناءه فقط، بامكاننا مراقبة هالة الشمس وتصويرها.
ويظل ضوء الهالة الشمسية خفيفـاً لدرجة أنه ليس بالإمكان رؤيته خلال النهار، طالما أن السماء الزرقاء نفسها تزيد بريقاً عنه؛ إما في الليل، فإن الشمس طبعاً تختبىء خلف الأرض. وخلال الخسوف الكلي وحده يغطي خيال القمر الضوء الرئيسي الصادر عن الشمس، فما يمنع شعاع الشمس الانتشار بواسطة جزئيات الهواء. واثناء الخسوف يصبح الجو داكناً بحيث تصبح الغازات المشتعلة واضحة حول خيـال القمر.
وتؤثر البقع الشمسية ـ أو «الطقس» على سطح الشمس ـ، كما يبدو، على مناخ الأرض، ويمكننا مراقبة تلك العواصف الثائرة في هالة الشمس عندما لا يعمي وهج الشمس الآت تصويرنا. وتساعدنا مراقبة الغازات التي تشتعل في هالة الشمس على تطوير جهودنا في صناعة الطاقة البديلة، التي لا يكون مصدرها آبار النفط العربية، أو التي لا تنتج وراءها كميات هائلة من النفايات المشعة، وهذه الطاقة البديلة هي : التحام نوى الذرات. وخلال هذه العملية تتولد طاقة هائلة ناتجة عن التحام الذرات ببعضها. وتشكل هذه العملية خطراً أقل، وتعطي طاقة أكبر من تلك التي تتولد من خلال انشطار الذرات، فيما يعرف بالطاقة النووية التقليدية .
ولا يمكن تحقيق هذا الانصهار إلا من خلال درجات حرارة كبيرة جداً تفوق التصور كحرارة الشمس (أي ما هو أكثر من 11 الف درجة فهرنهايت)، حيث تتعرض الغازات لضغوطات قوية بفعل جذب الحقل المغناطيسي للشمس لها. ويسعى الخبراء في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى تحقيق عملية الانصهار هذه عن طريق ضغط الغازات بواسطة حقل مغناطيسي يكون بداخل مفاعل نووي حلقي الشكل يعرف بـ«التوكـاماك». ومن خلال الخسوف، يسعى العلماء إلى تحليل هالة الشمس ليوسعوا مداركهم حول كيفية تصرف الغازات تحت الضغط العالي جداً، وذلك لتحسين تصميم مفاعلات الصهر.